طلال محمد: الحملة الممنهجة ضدّ الإدارة الذاتية

في خضمِّ الصّراعاتِ التي تضربُ جسدَ الشّرقِ الأوسط، تطفو تجربةُ الإدارةِ الذاتيةِ في شمالِ وشرقِ سوريا كمحاولةٍ رائدةٍ لبِناءِ نموذجٍ ديمقراطيٍّ بديلٍ في منطقةٍ أَنهكَتها الحروبُ والأنظمةُ الشُّموليةُ، إلا أنَّ هذا النموذجَ لا يسيرُ على دربٍ مفروشٍ بالورود، بل يتعرَّضُ منذُ ولادتهِ إلى حملةِ تحريضٍ وكراهيةٍ ممنهجة، تقودُها أطرافٌ إقليميةٌ ودوليةٌ وداخليّة، وتغذّيها منصاتٌ إعلاميةٌ ووسائلُ تَواصُلٍ اجتماعيّ تعملُ بلا كَللٍ لتشويهِ الصورةِ وزرعِ الفتن.
هذه الحملةُ ليست مجردَ تعبيرٍ عن اختلافٍ سياسيٍّ أو رؤى مُتباينة، بل هي حربٌ نفسيةٌ تهدفُ إلى كسرِ إرادةِ مجتمعٍ اختارَ أن يصوغَ مستقبلهُ بنفسهِ، بعيدًا عن وصايةِ المركزِ وعن هيمنةِ الدولةِ القوميةِ التي أرهقتْ شعوبَ المنطقةِ لعقود، ففي هذه الحرب تستخدمُ المفرداتُ كسلاحٍ، وتُحرَّفُ الوقائعُ لتغدو أكاذيبَ مُقنعةً، ويُساقُ الرأيُ العامُّ باتجاهاتٍ تَصبُّ في مصلحةِ مَن يخشونَ فكرةَ الإدارةِ الذاتيةِ قبلَ أنْ يَخشَوا أدواتِها.
يتمُّ تصوير الإدارة الذاتية في وسائلِ الإعلامِ المُعاديةِ على أنَّها كيانٌ انفصاليٌّ، مُعادٍ، ومتآمرٌ مع الأجنداتِ الأجنبيةِ، بينما هي في جوهرِها مشروعٌ سياسيٌّ واجتماعيٌّ يستندُ إلى مبادئِ الديمقراطيةِ، والعدالةِ الاجتماعيةِ، والمساواةِ بينَ الجنسين، والاعترافِ بالتنوّعِ الثقافيِّ والإثنيِّ والدينيِّ، بل إنَّ هذه الإدارةَ – على عكسِ معظمِ الأنظمةِ في المنطقةِ – فَتَحتِ المجالَ أمامَ مشاركةٍ فعليةٍ للمرأةِ، ومنحتِ الأقليات القوميةَ والدينيةَ مساحةً لِلتعبيرِ والمُشاركةِ في صُنعِ القرارِ، وهو ما شكَّلَ تهديدًا واضحًا للنماذجِ السلطويةِ التقليديةِ التي لا تحتملُ التعدّدَ والاختلاف.
وتتجلّى الحملةُ المُمنهجةُ في أشكالٍ متعددةٍ، تبدأُ من التضليلِ الإعلاميِّ، ولا تنتهي عندَ حملاتِ الكراهيةِ على وسائلِ التواصُل.. تُفبرَكُ التقاريرُ، وتُنتَزعُ التصريحاتُ من سياقها، وتُعادُ صياغةُ الأحداثِ بطريقةٍ خبيثةٍ تُثيرُ الانقسامَ بينَ مُكوِّناتِ المجتمعِ الواحد، بل وتُستخدمُ حساباتٌ وهميةٌ، تُدارُ من غُرَفٍ مُظلمةٍ، لبثِّ الشائعاتِ وإشعالِ الفتنِ، في محاولةٍ يائسةٍ لإحداثِ شرخٍ في البنيةِ الاجتماعيةِ التي صمدَتْ في وجهِ أَخطرِ التنظيماتِ الإرهابية.
هُنا تَبرزُ أهميةُ الوعيِ السياسيِّ والإعلاميِّ لمُجتمعاتِ شمالِ وشرقِ سوريا، التي باتتِ اليومَ مُطالَبةً ليسَ فقط بحمايةِ حدودِها الجُغرافية، بل أيضًا بحمايةِ حدودِها المعنويةِ منَ الاختراقِ والتشويه.
إنَّ الحربَ على الإدارةِ الذاتيةِ ليستْ مجردَ خلافٍ حولَ نَمطِ الحُكم، بل هي جزءٌ من صراعٍ أوسعَ على مستقبلِ سوريا والمنطقةِ، فنجاحُ هذه التجربة يعني أنَّ هناكَ بديلاً ممكنًا عن الأنظمةِ القمعيةِ، وأنَّ شعوبَ المنطقةِ قادرةٌ على العيشِ معًا رغمَ تنوّعِها، دونَ الحاجةِ إلى طغيانٍ مركزيٍّ أو تدخُّلٍ خارجيٍّ، ولهذا بالضبطِ، تُستهدَفُ الإدارةُ الذاتيةُ، لأنَّها تُقدِّمُ نموذجًا ينسفُ مُبرراتِ الأنظمةِ القمعيةِ التي تَستندُ إلى الفوضى كذريعةٍ للاستبداد.
في وجهِ هذه الحملة، يَبقى الرِّهانُ على وعيِ المُجتمعات، وعلى استمرارِ المشروعِ السياسيِّ والاجتماعيِّ الذي أَثبتَ – رغمَ كلِّ التحدياتِ – أنَّهُ يملكُ أسبابَ الحياة، فبينما تُبَثُّ الكراهيةُ من وراءِ الشاشاتِ، تُزرَعُ بذورُ التغييرِ الحقيقيِّ على الأرض، حيثُ يَعيشُ الناسُ معًا، ويَعملونَ معًا، ويَخطّونَ بأيديهم ملامحَ مستقبلٍ مُختلف.
إنَّ الدفاعَ عن الإدارةِ الذاتيةِ اليومَ لا يَعني الدفاعَ عن حزبٍ أو جهةٍ، بل هو دفاعٌ عن حقِّ الشُّعوبِ في أنْ تَحكمَ نفسها، وعن مشروعٍ لم يتورَّط في الدم، بل وُلِدَ من رَحمِ المعاناةِ، ليكونَ بارقةَ أملٍ في ظلامِ المنطقةِ الطويل.