أخبار

في ذكرى التدخل.. سوريا والفوضى “الخلاقة” الروسية

تمارس القوى المهيمنة سياسة نشر الفوضى الخلّاقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لتمكين سيطرتها عليها، ولطالما هاجمت روسيا دور الولايات المتحدة واتهمتها بتدمير المنطقة ونشر الفوضى والإرهاب، إلا أنها تناست بأنها تمارس الفوضى ذاتها في المنطقة عبر التمسك بحكومة دمشق التي ترفض التنوع، وتركيا الساعية إلى القضاء على الشعب الكردي وحرمانه من حقوقه.

قبل 6 سنوات، وتحديدًا في 30 أيلول عام 2015 تدخلت روسيا عسكريًّا في الحرب السورية، ما شكَّل نقطة تحوّل في تاريخ هذه الحرب، والذي أدى فيما بعد لزيادة مساحة سيطرة قوات حكومة دمشق إلى حوالي 70% من الأراضي السورية بعدما كانت قد انحسرت إلى أقل من 30 %.

وعانت قوات حكومة دمشق من انهيار كبير خاصة بعد تفجير مبنى “الأمن القومي” الذي وقع في 18 تموز/يوليو 2012 وقُتل فيه وزير الدفاع داود راجحة، ونائبه آصف شوكت، ورئيس خلية إدارة الأزمة حسن تركماني، وهشام بختيار رئيس مكتب الأمن القومي في حزب البعث، وهؤلاء كانوا قادة الصف الأول العسكرية.

وبعد التفجير عانت قوات حكومة دمشق وشنت المجموعات المسلحة هجمات كبيرة على مواقع قوات الحكومة مستغلة التخلخل الذي حصل في صفوف الأخيرة، ووصلوا إلى أطراف العاصمة دمشق.

ومع مرور الأعوام وعلى الرغم من التدخل الإيراني المباشر إلى جانب قوات حكومة دمشق، إلا أن انحسار قوات حكومة دمشق استمر وتقلّصت المساحة التي تسيطر عليها.

وفي ذلك الوقت، قيل إن قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني (اغتيل في 3 كانون الثاني 2020 بغارة أميركية في العراق)، الذي قام بزيارة عاجلة إلى موسكو، تمكَّن من إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووزير دفاعه سيرغي شويغو، بأنه ما لم تتدخل روسيا حالًا فإنها ستخسر سوريا لصالح قوى الغرب المنافسة.

وتدخلت روسيا في الحرب السورية إلى جانب قوات حكومة دمشق، بـ 60 ألف جندي، ونحو 26 ألف ضابط، وفقًا لوزارة الدفاع الروسية، وجربت جميع أنواع أسلحتها على رأس الشعب السوري، وجعلت من الأراضي السورية ساحة لتدريب جنودها ميدانيًّا.

تدخّل عسكري بعد الدبلوماسي

بدأت موسكو بانخراطها غير المباشر “الدبلوماسي” في سوريا، عبر سلسلة فيتواتٍ متتالية في مجلس الأمن ضد قراراتٍ اقترحها الغرب.

وأولى الفيتوات كان في تشرين الأول/ أكتوبر 2011، عندما صوتت روسيا ضد فرض عقوبات على حكومة دمشق لاستخدامها “العنف” ضد الشعب السوري. والثاني في شباط/ فبراير يحول دون تحميل حكومة دمشق مسؤولية قتل السوريين.

أما الثالث فكان في اليوم التالي لتفجير مبنى الأمن القومي في دمشق، وتحديدًا في 19 تموز/ يوليو 2012، عندما أجهضت موسكو قرارًا يدين حكومة دمشق، ويهدف إلى وضع خطة انتقال للسلطة تحت الفصل السابع الذي يجيز لمجلس الأمن التدخل عسكرياً.

وحتى الآن استخدمت روسيا، حق النقض (الفيتو)، 14 مرة في مجلس الأمن الدولي ضد قرارات تستهدف حكومة دمشق، وكان أبرزها يستهدف بالدرجة الأولى ملف الكيماوي الخاص بحكومة دمشق، وذلك بغرض الحفاظ على الحكومة الموجودة حتى ولو كانت ضعيفةً، ولربّما أراد الروس أن تكون هذه الحكومة منهكةً من أجل استغلالها أكبر قدر ممكن، وهو ما جرى لاحقاً.

ولا يخفى على أي متابعٍ للشأن السوري أن سياسة موسكو في سورية، بدأت باستيعاب جميع القوى الفاعلة في هذا البلد، حيث تجنّبت، قدر الإمكان، خوض أي صراع مباشر مع أي أحد منها في البداية، ولكنّها عملت على خلق صراعات ثنائية بين هذه القوى وذلك في سبيل إضعافها لتحييدها فيما بعد.

ويقول العقيد الأميركي المتقاعد روبرت هاملتون في تحليل له بموقع معهد أبحاث السياسة الخارجية “إف بي آر آي” (FPRI) تحت عنوان “حروب روسيا الأبدية.. سوريا والسعي لتحقيق مكانة القوة العظمى” إن الكرملين أعاد تأسيس نفسه كلاعب في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط.

ويضيف هاملتون: “لقد سمحت الاستراتيجية التي وضعتها روسيا ضد الاستراتيجيات الغربية المشوشة والمترددة لموسكو بتحقيق هدفها الأولي المتمثل في منع سقوط نظام بشار الأسد”.

أما الباحث الروسي كيريل سيمينوف فقال، في تصريح خاص لوكالتنا، عن الأسباب التي دفعت الروس إلى التدخل العسكري المباشر في سوريا: “الغاية الأساسية للتدخل الروسي كانت دحر الإرهابيين في المقام الأول، ولكنه تحوّل فيما بعد إلى حماية النظام وجعله ينتصر على المعارضة على الأرض، كما أن القوات الروسية ما زالت تعمل على الأرض عبر قصف إدلب”.

وقبل التدخل المباشر كانت موسكو في حيرة من أمرها، ففي ذلك الوقت كانت تعيش مرحلة اشتباك عنيفة مع الغرب، نتيجة سيطرتها على شبه جزيرة القرم (آذار/ مارس 2014)، ونتيجة ذلك فرضَ عليها الغرب عقوبات اقتصادية قاسية أرهقت اقتصادها، إلا أنه وفي نهاية المطاف، وفق حسابات دقيقة، تدخّل الروس بكامل قوتهم.

وشكَّل التدخل العسكري الروسي نقطة تحوّل في تاريخ الحرب السورية، التي كانت موازين القوى فيها تميل لصالح المجموعات المرتزقة التي كانت تتلقى الدعم من طيف واسع من القوى الإقليمية والدولية، من بينها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والسعودية والإمارات والأردن، في حين كان الدعم الأكبر قادمًا من تركيا وقطر اللتين أغدقتا المرتزقة بالأموال والأسلحة وجمعت جميع الإرهابيين في العالم في سوريا.

واستطاعت روسيا عبر تدخّلها تغيير خريطة الصراع بالكامل، واستعادت السيطرة على الكثير من المناطق التي كانت قد خسرتها حكومة دمشق، هذا من الناحية العسكرية.

أما سياسيًّا، شابَ دور موسكو الكثير من “الخبث”، فتحايلت على المجتمع الدولي عبر صياغة مسارات جديدة (أستانا، وسوتشي) ليس لحل الأزمة؛ بل لتعزيز مصالحها ومصالح أنقرة وطهران، وهمّشت الدور الغربي والعربي والسوري بطبيعة الحال.

كانت الدول الغربية تأمل وتتوقع بأن تكون سوريا، كما كانت يقول جيمس جيفري، مستنقعًا تغرق فيه موسكو ويستنزف طاقتها وميزانيتها وجنودها، غير أن الأخيرة حققت العديد من المكاسب وتحولت إلى لاعب أساسي في الشرق الأوسط مستفيدة من تذبذب السياسات الغربية.

والآن باتت روسيا تمتلك قاعدة عسكرية ضخمة في طرطوس ولمدة 49 عامًا، ويمكنها نشر ما يصل إلى 10 سفن حربية، بما في ذلك السفن النووية، بالإضافة إلى قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية.

كما سيطرت موسكو على الاقتصاد السوري، عبر استغلال الظروف الاقتصادية والسياسية لحكومة دمشق المعزولة دوليًّا وعربيًّا، ودفعتها إلى التنازل عن أصول سوريا الاقتصادية، من نفط وغاز وفوسفات، بالإضافة إلى تجهيز الأوضاع لجعل شركاتها المستفيد الأول من عملية إعادة الإعمار، فباتت روسيا اللاعب رقم واحد في الملف السوري.

أوزار الحرب ومعضلة روسيا في سوريا

ومع ذلك يمكن لعمليات الانتشار الروسي في سوريا أن تجهد موارد قوة روسيا العسكرية الموسعة، ولذلك يقول العقيد الأميركي المتقاعد روبرت هاملتون إنه على الرغم من أن عمليات الانتشار تغذي نظرة الكرملين لنفسه كقوة صاعدة وحاجته إلى التنافس مع الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، فإنها لا تفعل الكثير لتهدئة مخاوف المواطنين الروس العاديين. فروسيا ليست دولة ديمقراطية، ولكن يجب أن تظل حكومتها منتبهة لإرادة الشعب.

ويضيف هاملتون بأنه ما لم تكن موسكو قادرة على موازنة رغبتها في الحصول على مكانة قوة عظمى مع القدرة على معالجة مخاوف الشعب، فقد تجد دخولها في الجغرافيا السياسية عالية المخاطر أكثر تكلفة مما كان متوقعًا.

كما أن روسيا تواجه قلة ثقة من الأطراف السورية. كما عجزت عن فرض رؤيتها للحل في سوريا والتي تمر عبر إعادة تأهيل حكومة دمشق، كما عجزت عن إقناع الدول الغربية بمباشرة إعادة إعمار في هذا البلد الذي دمرته الحرب. وهنا تواجه موسكو مشكلة ذات وجهين: فلا هي قادرة على فرض حكومة دمشق على المجتمع الدولي، ولا هي قادرة على تطويع حكومة دمشق وتكييفها وفق المطالب الدولية.

وعلى الرغم من الانتصارات العسكرية الروسية، الا أن موسكو باتت مسيطرة على كومة من الركام والدمار والاقتصاد المنهار والفساد المستشري والفوضى الهائلة.

الفوضى الخلّاقة الروسية

“الفوضى الخلّاقة” مصطلح ظهر لأول مرة عام 1902 على يد مؤرخ أميركي يدعى تاير ماهان، وقد توسع الأميركي مايكل ليدين فأسماها (الفوضى البنَّاءة) أو (التدمير البنَّاء)، وذلك بعد أحداث أيلول بعامين في 2003، وهذا يعني الهدم، ومن ثم البناء. ويعني هذا إشاعة الفوضى، وتدمير كل ما هو قائم، ومن ثم إعادة البناء حسب المخطط الذي يخدم مصالح القوى المتنفذة.

ومع ذلك، فإن هذه الفوضى لم تقتصر على الولايات المتحدة بل سعت حكومة دمشق إلى تطبيق “الفوضى الخلّاقة”، أي وصول المجتمع إلى أقصى درجات الفوضى المتمثلة في العنف الهائل وإراقة الدماء، وإشاعة أكبر قدر ممكن من الخوف لدى الجماهير، فإنه يصبح من الممكن بناؤه من جديد بهوية جديدة تخدم مصالحه، ولكن الأمور خرجت عن سيطرة حكومة دمشق، وبدأت تنقلب ضدها، ولذلك تدخل الروس حينها بكامل قوتهم، ولربّما أراد الروس عدم التدخل في بادئ الأمر حتى يتمكن الإنهاك من حكومة دمشق من أجل استغلالها أكبر قدر ممكن، فكل القوى المهيمنة لا تسعى إلى علاقات ندية بل تبحث عن أتباع لها.

ولعل الروس أرادوا أيضًا الانتظار إلى الربع الأخيرة من عام 2015 لسبب وجيه، ألا وهو إفساح المجال لحكومة دمشق للتدمير وخلق الفوضى قدر ما تشاء، وحينئذ يأتي الروس بحجة مكافحة الإرهاب لـ “بناء سورية” وفقًا لمصالحهم، وما نراه اليوم هو بمثابة دليل دامغ على تفرد الروسي بالقرار السوري.

فرّق تسُد

“فرّق تسُد” هي سياسة خبيثة طالما اعتمدت عليها بريطانيا والدول الاستعمارية لإشاعة التفرقة في صفوف الشعوب التي تستعمرها، ولكن هذا الأمر لم يقتصر على بريطانيا وحدها، بل بدأت روسيا في اتباع هذه السياسة في سوريا.

واستخدم الرئيس الروسي “الفزّاعة الكردية” ونعت وزير خارجيته مشروعَ الادارة الذاتية، في كل مناسبة يخرج فيها إلى الإعلام، بأنه “مشروع انفصالي” من أجل السماح لتركيا بشن هجمات على مناطق شمال وشرق سورية واحتلالها، وذلك من أجل خلق نوع من الصراع ما بين الكرد والترك والعرب، وكذلك بسماحها لحكومة دمشق بقصف درعا وغيرها من المناطق دون أي حساب أو رادع، أي أن روسيا تعمل في سوريا على خلق صراعات ثنائية(كردية – عربية. كردية – تركية. سنية – علوية. سنية – درزية. علوية – درزية. مسلمة ومسيحية).

ولا تقتصر السياسة الروسية على الشعب السوري فقط، بل تسعى روسيا من البوابة السورية، لخلق توترات بين إيران وإسرائيل وبين تركيا وأميركا، ولعل سياسة “فَرِّق تسُد” بصيغتها الروسية وذلك عبر ضرب القوى الإقليمية والعالمية بعضها ببعض قد نجحت إلى حدٍّ كبير. وهي الآن بانتظار اللحظة المناسبة للتفرّد في الهيمنة في سوريا.

وفي هذا السياق، يرى كبير الباحثين في مركز نيولاينز الأميركي، نيكولاس هيراس أن غرض روسيا من ذلك “هو وجود قاعدة عمليات روسية للأنشطة في البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط وأفريقيا”.

روسيا والقرار الدولي 2254

طالما صرحت روسيا بأنها مع القرار الدولي 2254 وسلله الثلاث (هيئة حكم انتقالي – دستور جديد – انتخابات تشريعية ورئاسية)، ولكن هذا الحديث هو لذرّ الرماد في العيون، لأن تصرفات موسكو تدل على عدم جديتها في ذلك، فلا توجد حتى الآن هيئة حكم انتقالي واجتماعات “الدستورية” باتت نقاشًا غربيا وأما عن الانتخابات فحدّث بلا حرج.

وفي هذا السياق، يقول الباحث الروسي كيريل سيمينوف إن “جميع المسؤولين عن تطبيق القرار 2254 سواء في موسكو أو في واشنطن لم يقوموا بأي شيء في سبيل تطبيق هذا القرار حتى أن موسكو لم تفعل أي شيء لحض دمشق على تطبيق القرار الدولي، وبدلًا من ذلك أنشأت لجنة لمناقشة الدستور، والتي تم تجميدها فيما بعد، أي أن القرار الدولي 2254 لم يطبق منه أي بند”.

التغيير الديمغرافي

ومنذ أن تدخلت روسيا في سوريا عسكريًّا حصلت عمليات تهجير كبيرة، بدأت بالشعب العربي في غوطة دمشق ودرعا وحمص وحماه وانتهت بالشعب الكردي بثلاث احتلالات تركية (جرابلس والباب وإعزاز – عفرين – سريه كانيه وكري سبي/تل أبيض)، حيث أعطت موسكو الضوء الأخضر لأنقرة بشن الهجمات على الإدارة الذاتية بغرض إضعافها من أجل فرض الشروط عليها، بغية إركاعها وقبول حكم حكومة دمشق دون قيد أو شرط، ناهيك عن حملات روسيا العنيفة ضد المدنيين في إدلب، بغية إركاع من فيها من أجل الضغط على تركيا وإضعافها، أي أن روسيا المنادية بوحدة الأراضي السورية ساهمت عن علم ودراية في تغيير ديمغرافيات المنطقة بغية السيطرة عليها فيما بعد.

وسياسة التغيير الديموغرافي الحاصلة منذ التدخل الروسي، والتي تطبقها هي وشركاؤها في أستانة (تركيا وإيران) ضمن الجغرافية السورية، تخدم هدفها الأساسي (الفوضى الخلاقة) أي التدمير ومن ثم البناء مجددًا وفق الطلب.

مواجهة الفوضى

يقول الشاعر السوري الكبير، الراحل نزار قباني وكأنه يحاكي الواقع الذي نعيشه: “والشعر.. ماذا سيبقى من أصالته؟ إذا تولاه نصـابٌ.. ومـدّاح؟ وكيف نكتب والأقفال في فمنا؟ وكل ثانيـةٍ يأتيـك سـفاح؟”.

السوريون، اليوم، هم كبش فداء بين حكومة جلّ اهتمامها الاستئثار بالسلطة وسرقة ونهب قوت الشعب، والتي تسعى جاهدة إلى العودة بالبلاد ما قبل آذار 2011 وبين مصالح القوى الخارجية في هذا البلد، ولذلك لا بد من تضافر جهود جميع السوريين مع بعضهم البعض والاستفادة من تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا التي ستجفف بأصابعها الخضراء الدماء التي تسيل.

المصدر: ANHA.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى