شورش درويش: الاحتفاظ بالسلطة أم استعادة الجولاني.. أين يقف الشرع؟

(السلام- المركز الكردي للدراسات) .. في تعليق على بودكاست CSIS المنشور في 20 مارس/آذار 2025 الذي أجراه جون ألترمان مع صحافي «إيكونوميست» نيكولاس بيلهام، حيث أجرى الأخير لقاءً مع الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، ترد عبارات انطباعية عديدة تحاول رسم بروفايل مُتقن لرأس السلطة السورية الجديدة؛ فالشرع وفق تصريف بيلهام رجل يريد السلطة فحسب، إذ إنه «غيّر القبعات وغيّر المنظمات مرات عديدة وأقنع الكثير من الناس بأنه شيء آخر غير الرجل الذي تبيّن أنه كذلك. أفترض أن الحقيقة الوحيدة التي نعرفها عنه هي أنه صادق مع نفسه ويريد السلطة ويعتزم الاحتفاظ بها بوسائل عادلة أو خاطئة».
يتعامل جمهور السلطة الجديدة الذي اتسع على وقع الهزيمة الأخيرة لنظام الأسد الفاسد والدموي، مع الشرع على أنه شخصيتين تسكنان جسداً واحداً: رجل هادئ مشذّب اللحية يرتدي بدلةً رسمية اسمه أحمد الشرع يريد متاركة ماضيه، وآخر يعتمر كوفية وقادر على إسكات معارضيه بوسائل خاطئة.
وكما في رواية ستيفنسن الخياليّة «دكتور جيكل ومستر هايد»، حيث الشخصية الوادعة الخيّرة تتحوّل إلى أخرى شريرة آثمة ضمن حلقة صراع مريرة للسيطرة النهائية على سلوك بطل الرواية، فإن قسطاً من مشايعي الشرع يرون فيه ذلك حين يطلبون إليه العودة إلى بداياته المؤسسة لشخصيته، ثم العدول عن تلك الشخصية بعد أن يخلّصهم من صداع الأقليات والمنغّصات التي تقف أمام حلم «المجتمع المتجانس». لقد برزت هذه الدعوات إبان أحداث الساحل الدامية، وفي مناسبات عديدة للتعامل مع مناوئي سلطته من الدروز في مناسبات عديدة. ولا شكّ فإن مناجاة الجولاني للتعامل مع الكرد تحتلّ موقعاً مركزياً في خطاب من يزعمون أنهم يؤيّدون الرجل. وكل ذلك رغم نجاح الشرع في تبديد أشباح الحرب مع قوات سوريا الديمقراطية عبر اتفاقه مع الجنرال مظلوم عبدي.
لكن، ما الذي يعنيه لقب «براغماتي» الذي التصق بالشرع طيلة فترة تمكنه من فرض سلطته في دمشق؟ وهل البراغماتية فضيلة سياسية أم أنها محض توصيف لشخص متبدّل الأحوال والأهواء وقابل لأن يغيّر من نفسه حفاظاً على السلطة؟ واقعياً تبدو البراغماتية أسبق لمرحلة الحكم. ففي التجربة الإدلبية، أبدى الشرع مرونة مضطردة في التعامل مع مبعوثي الدول الغربية وصحافييها الذين سعوا إلى إعادة اكتشافه وتقييمه ثم تقديمه بصورة مغايرة لتلك التي جسّدها أعلام التطرّف العنيف مثل أسامة بن لادن وأنور العولقي وأبو مصعب الزرقاوي، ولاسيما أبو بكر البغدادي وأمراء تنظيم داعش الإرهابيّ بالغي الدوغمائية، حيث مثّل عنفهم المشهديّ والمتفلّت أكثر صور الشرّ المحض والوحشية وضوحاً. وفي التجربة الإدلبية أيضاً، أمّن العمل مع المنظّمات الغربية وروافدها السورية مساحة للعمل المشترك وتبادل المنافع وتقديم تصوّرات مغايرة لصالح «حكومة الإنقاذ» رغم تشدّدها الاجتماعي والدينيّ. كما كانت مسألة المساكنة الجهادية المنضبطة بين جهاديي سوريا والأجانب في إهاب واحد تسترعي انتباه الغربيين؛ فقد تمكّن الجولاني من ترويض نوازع الجهاديين الأجانب العنيفة تجاه الخارج، أو ربّما تعطيلها مؤقّتاً، لكنه في المقابل وافق على إطلاق يدهم في الساحل السوري بعد أن ضمّ العديد من قياداتهم إلى وزارة الدفاع.
ثمة وقائع أفضت إلى تحوّل الشرع إلى ما بات يوصف بالبراغماتية، إذ لم يأتِ الأمر نتيجة مراجعات وقراءات ونقد ذاتيّ قدّمه الشرع لنفسه وتنظيمه. شكّلت عملية تحطيم هيمنة تنظيم داعش والإجهاز عليه في معاقله بالموصل والرقة وقتل متزعمي التنظيم على التوالي بعمليات عسكرية واستخباراتية دقيقة، ثم الحرب الإسرائيلية في غزّة والضاحية الجنوبية ببيروت وما نجم عنها أيضاً من القضاء على معظم قياديي الصف الأوّل في تنظيمي حماس وحزب الله، المقدّمات النظرية لعملية التحوّل البراغماتي للشرع. ذلك أن قتل متزعمي التنظيمات العنفيّة المتطرفة كفيل بفرط عِقد تنظيماتهم، أو إضعافها قدر المستطاع، خاصة أن نهج اغتيال متزعمي تلك التنظيمات يقوم على فكرة قتل الرجل الأول، ثم الأوّل الذي سيحل مكان المقتول، وهكذا.
كشفت الجاهزية للحرب والاعتداءات على الدروز في صحنايا وجرمانا والسويداء بأنها امتداد وتكرار مخيف لما حل بالعلويين، وأن جولة «التأديب» قابلة للاستعادة في كل اتجاه، وأن التنقّل من إرضاخ جماعة أهلية ووطنية إلى أخرى بات مسألة وقت، ذلك أن الفظاعات المرتكبة بحق العلويين تحلّ بالدروز حالياً وقد تمرّ بالكرد إن سنحت الظروف، وستنتهي بالجماعات الدينية السنّية والبيئات الليبرالية. وكل ذلك لبلوغ مرحلة «المجانسة» السورية المطلوبة. معنى هذا الكلام أن غايات السلطة تتجاوز رغبة الحكم عبر ألعاب السياسة والتسويات والمصالحات إلى الإرغام وفرض الهيمنة وإرضاخ الجماعات، أي بالوسائل الخاطئة للاحتفاظ بالسلطة، فيما على العكس تبدو السلطة ليّنة ومبالغةً في رجائها لرفع العقوبات الخارجية عنها ونيل الاعتراف الأميركي بها وتُدخل الوساطات العربية وسواها لأجل التقليل من خطر إسرائيل عليها، كما تبدي استعداداً للذهاب أبعد من ذلك حيث الانضمام إلى اتفاقيات إبراهام لأجل البقاء في السلطة.
والحال، أن ثمّة «جولانيّة» يجري استعادتها في الداخل لضبط الأوضاع بالقسوة والعنف وارتداء قفازات «المجموعات غير المنضبطة» لكي لا تترك السلطة بصماتها في مسرح الجريمة، وهي لعبة لا يمكن أن تنطلي على تل أبيب التي تعرف مناط الوضع الداخلي للسلطة وقد تعمد إلى معاقبتها لتجاوزها «الخط الأحمر الدرزي» والتمدّد جنوباً.
من ناحية واقعية، ليس هناك بدائل عن الشرع لتولّي السلطة في الظرف السوري الراهن، إذ لا معارضة منتظمة واضحة في خطاباها وتطلّعاتها الوطنية ولا قوى عسكرية وطنية مكافئة للمركّب العسكري والأمني الذي بات يحتكره الشرع. فوق أن الرئيس المؤقّت امتلك داعمين خارجيين يؤيّدون سلطته المطلقة. ويبقى السؤال الآن: ما الذي يشدّ رجلاً يسيطر على دمشق لانتهاج الخطّ العنفيّ في حل مشكلات حكمه (رغم إنكاره الانتهاكات التي تُرتكب باسم سلطة الدولة)؟ ثم ما الذي يجعل «البراغماتية» تنهار أمام مطالبات الحكم المحلّي والشراكة الوطنية بهذه السهولة وبهذا الشكل العنيف؟ الغالب على الظن هنا، أن السلطة تحاول المزج بين «الجولانية» بوصفها حالة رمزية مخيفة للخصوم وقادرة على ارتكاب الانتهاكات، وبين الشرع الذي يجيد التوقيع على اتفاقيات كالتي وقّعها مع الجنرال مظلوم عبدي في 10 مارس/آذار الماضي. لكن في مجمل الأحوال، لا يمكن أن تتعايش الشخصيتين في جسد سلطة واحدة. فإمّا أن يطيح الشرع بالجولاني ومن يحفّ به من شخصيات وتصوّرات، وهذه مسألة شبه مستحيلة، أو أن يستمر الوضع الكارثي في سوريا إلى أن يملّ خصوم الشرع وحلفاؤه الخارجيين من هذه السلطة التي لا تمتلك سوى الخيارات العنفيّة لمعالجة المشكلات الداخلية، وهو ما يعني أن الحفاظ على السلطة يحتّم على الشرع ألّا يستعيد الجولاني الذي يجاهد لإقناع الغرب بأنه تركه يوم 9 ديسمبر/كانون الأول 2024، لكنه يضطرّ لاستعادته يوماً بعد آخر.